Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

الارتفاعات وتأثيرها على الحياة ....الأدب العلمي العدد الخامس عشر


محمد حسام الشالاتي

عزيزي القارئ : هل فكرت يوماً ماذا يحدث لو أن أحد أبواب أو نوافذ الطائرة قد فُتح أثناء طيرانها على ارتفاع عالٍ، أو إذا حدث أي خلل في الانغلاق المحكم لنافذة طائرة أو أحد أبوابها، أو إذا حدث أي أمر آخر تسبب في تخلخل ضغط الهواء في مقصورة الطائرة ؟
وهل فكرت ماذا يحدث لو انتقل إنسان من سطح الأرض إلى قمة إيفرست فوراً (على افتراض حدوث ذلك)؟
الجواب في كلتا الحالتين هو فقدان الوعي التدريجي و الدخول في غيبوبة خلال ثوانٍ معدودة، وقد يفضي ذلك إلى الموت بسبب نقص الأوكسجين «هيبوكسيا »، أو ما يسمى ب «عوز الأوكسجين ». و على الرغم من ذلك تطير الطائرات التجارية على ارتفاعات عالية، و لكن بعد ضغط مقصورة الركاب بمعدل مناسب من الأوكسجين (و يتم أحياناً تزويد الركاب بأقنعة الأوكسجين في حالات فقدان الضغط). كما وصل عدة متسلقين إلى قمة إيفرست دون إمدادات إضافية من الأوكسجين. و إذا كان لا يوجد ما يكفي من الأوكسجين للحفاظ على الحياة في الارتفاعات العالية التي تطير عليها الطائرات التجارية، فإن الارتفاعات الأوطىء (مثل قمة إيفرست) يوجد فيها ما يكفي من الأوكسجين للتنفس (بجهد)، شريطة عدم وضع الإنسان فجأةً في ذلك الارتفاع. كذلك قام عشرات القافزين المظليين بالقفز من ارتفاعات عالية بعد تزوّدهم بأقنعة الأوكسجين. و حققت بطلة العالم في الطيران الشراعي المعلّق البريطانية «جودي ليدن » رقماً قياسياً عالمياً جديداً، عندما انزلقت مع طائرتها المعلّقة من منطاد على ارتفاع 12000 متر فوق الصحراء الأردنية سنة 1996 ، و لكن بعد ارتدائها بذلة ضغط. كيف و لماذا و ما هو تفسير ذلك؟ لنتابع معاً:

لماذا تتسبب الارتفاعات في نقص الأوكسجين ؟
من المعروف أن كثافة الهواء تقل كلما صعدنا باتجاه الأعلى، و بالتالي يقل وزنه، ما يتسبب بانخفاض ضغطه كلما صعدنا. و على اعتبار أن الأوكسجين يشكل ما نسبته %21 من مكونات الهواء(غازات الهواء)، فإنه يتواجد في هواء الطبقات الواطئة أكثر من الطبقات العالية. و يساوي معدل كثافة الهواء على ارتفاع 6كم نصف معدل كثافته السطحية (على سطح البحر)، و على ارتفاع 20 كيلومتراً يساوي 1/ 11 منه. كما يقل الضغط الجزئي للأوكسجين الموجود في الشهيق كلما صعدنا تبعاً لانخفاض ضغط الهواء الذي يشكل الأوكسجين أحد مكوناته، و تبقى نسبة الأوكسجين نفسها ( 21 %) إلا أن ضغط الهواء (و بالتالي ضغط الأوكسجين) هو الذي ينقص.
أضف إلى ذلك أن التناقص النسبي في الضغط الجزئي للأوكسجين في الرئتين يكون في الارتفاعات العالية أكبر مما هو في الجو لأن الجسم يطلق قدراً مهماً من بخار الماء الذي يحد تواجده في الحويصلات الرئوية (و هي الجيوب الهوائية الصغيرة التي يتم فيها التبادل الغازي بين الهواء الموجود في الرئة و الهواء المنحل في الدم) من الفراغ المتاح للأوكسجين، و هو الأمر الذي يصبح حدوثه متزايداً في الارتفاعات العالية. فهواء الرئتين يُشبع – على أي ارتفاع – ببخار الماء الذي ينتجه الجسم، و هو ما يمكن رؤيته بجلاء في يوم بارد، حيث يتكاثف الهواء الخارج مع أنفاس الناس عندما يخرج من الرئتين إلى الهواء البارد، مشكلاً سحابة صغيرة. و بسبب ذلك فإن الرئتين ستكونان مشغولتين تماماً ببخار الماء على ارتفاع 19000 متر دون أي فراغ للأوكسجين أو الغازات الأخرى، و هو ما يسمى «الوذمة الرئوية ». و يرتفع الكسر العشري للضغط الغازي في الرئتين و العائد لبخار الماء من 6% على مستوى سطح البحر إلى 19 % على قمة إيفرست التي تُعد بارتفاعها 8848 متراً أعلى جبل على الأرض. و هكذا فإن الارتفاع الذي يمكن للبشر أن يصعدوا إليه مع المحافظة على نسبة الأوكسجين العادية للرئتين (بأخذ الأوكسجين النقي الإضافي) هو 10400 مترٍ، و هو الارتفاع الذي تسير عليه معظم الطائرات التجارية. على أنه يمكن للإنسان أن يعيش على ارتفاعات أعلى من ذلك لأن تزايد التنفس (و هو النتيجة الحتمية للتواجد في الارتفاعات العالية) يطلق بعضاً من ثاني أوكسيد الفحم الموجود في الرئتين، مما يوفر فسحة أكبر للأوكسجين. و لكن فوق 12200 - 13700 مترٍ يمكن أن يحدث نقص حاد في الأوكسجين و يفقد الإنسان الوعي. أما فوق 18900 مترٍ فإن الدم يفور (يتبخر) بحرارة الجسم نفسها، و هو ما يفسر ضرورة ارتداء بذلة أو الحاجة إلى حجرة مضغوطة ذات إمدادات من الهواء محتواة بداخلها، و ذلك على الارتفاعات العالية جداً أو في رحلات الفضاء.

ما هي مخاطر نقص الأوكسجين على الطيران ؟
و هكذا تطير معظم الطائرات التجارية على ارتفاع 10400 مترٍ. و لكن إذا انفتحت نافذة أو باب على ارتفاع كهذا، فإن ذلك سيرافقه صوت عالٍ للهواء و هو يندفع خارج الحجرة إلى أن يتوازن الضغط في الداخل مع الضغط الخارجي، و سينتج عن ذلك تدفق الأشياء الخفيفة و غير المثبتة (و المسافرين غير المثبتين بأحزمة المقاعد) مع الهواء إلى الخارج فيما تمتلئ حجرة الطائرة بضباب خفيف مع هبوط في درجة الحرارة إلى أن تساوي مثيلتها في الخارج مما يؤدي إلى تكثف بخار الماء في الهواء، و يتوجب على المسافرين ارتداء أقنعة الأوكسجين بسرعة و إلا سيفقدون وعيهم خلال 30 ثانية بسبب هبوط الأوكسجين في رئاتهم. مع الإشارة إلى أن أبواب الطائرات ذوات المحركات النفاثة أو المحركات المروحية التوربينية، و التي تطير عادة على ارتفاعات عالية تبلغ 30000 قدمٍ وما فوق (حوالي 10000 مترٍ) من شبه المستحيل أن تنفتح أبوابها، لأن أبوابها تكون مؤمنة تماماً بفعل الضغط الجوي العالي داخل المقصورة، و الذي يعادل الضغط الجوي على ارتفاع ستة آلاف قدم، أي أن الضغط الجوي داخل الطائرة أكبر من الضغط الجوي الخارجي عند تلك الارتفاعات العالية، و ذلك يشكل ما يشبه السدادة، حيث إن أبواب الطائرات صممت على أن تأخذ عند فتحها حركة شبه دوران للداخل و من ثم للخارج.
 إن الحد المسموح به للطيران بلا أوكسجين في حجرة غير مضغوطة هو 3000 متر ( 12500 قدمٍ) فوق سطح البحر، و ذلك على الرغم من أنه يتم استخدام الأوكسجين عادةً من ارتفاع 2400 مترٍ لضمان هامش سلامة جيد. على أنه يجب التفريق هنا بين الشخص المدخن و غير المدخن: بالنسبة للمدخنين فان آثار و عوارض نقص الأوكسجين تبدأ عند ارتفاعات أقل مما تظهر عليه عند غير المدخنين، و ذلك بسبب عدم قدرة رئة المدخن على استيعاب الكميات اللازمة من الأوكسجين بسبب انسداد حويصلات الرئة...الخ. و تختلف عوارض نقص الأوكسجين من شخص لآخر، و لكن قد تبدو بشكل عام عند المدخنين عند ارتفاع 8000 قدمٍ ( 2700 مترٍ) عن سطح البحر، أي قبل أربعة آلاف قدم من بدء ظهورها على غير المدخنين.
كما أنه في كل طائرة نقل يُزوّد كل من الركاب و الطيارين و المضيفات بأقنعة الأوكسجين، حيث يوجد قناع أوكسجين فوق كل مقعد و حتى داخل دورات المياه لاستخدامها في حالة تسرّب الضغط الداخلي للطائرة إلى الخارج، حيث تسقط هذه الأقنعة آلياً عند وصول ضغط مقصورة الطائرة إلى مستوى معين، أو يتم سحبها يدوياً من قبل الراكب، و ذلك بهدف تزويد الركاب بالأوكسجين إلى حين نزول الطائرة إلى الارتفاع الذي يستطيع فيه الركاب التنفس الطبيعي دون الحاجة إلى هذه الأقنعة.
و يضغط الهواء عادةً في طائرات النقل التجارية على ارتفاع بين 1500 - 2400 مترٍ. و إن تعديل ضغط مقصورة الركاب أثناء الإقلاع أو الهبوط يتسبب في انسداد الأذنين، و هو ما يعانيه ركاب الطائرات التجارية. و تصمم الطائرات المدنية بحيث يطول خروج الهواء و انخفاض الضغط فيها ليصبح بضع ثوان بدلاً من أن ينخفض في الحال، إذا ما انكسرت نافذة ما. و لهذا فإن نوافذ طائرة الكونكورد التي تطير على ارتفاع من 15000 إلى 18000 مترٍ تكون صغيرة. و إذا ما اعتبرنا أن سقف البقاء على قيد الحياة هو 14000 مترٍ، و لو مع تنفس الأوكسجين النقي، فإن الارتفاع الذي تطير عليه الكونكورد يحتمل أن يكون قاتلاً، و هي الحقيقة التي قد لا يعيها معظم مسافري الكونكورد نظراً لسعادتهم بركوبها. و السبب أن الضغط البارومتري المنخفض في هذه الارتفاعات يعني أنه لا يوجد فراغ كافٍ في الرئتين للمقدار الضروري من الأوكسجين، كما أنه ارتفاع قريب من 18900 مترٍ، و هو الارتفاع الذي تبدأ فيه سوائل الجسم بالتبخر في درجة حرارة الجسم. على كل حال فإن عهد الكونكورد قد ولّى الآن بعد أن تمّ إيقاف جميع الطائرات المتبقية منها و إرسالها إلى متاحف الطيران إبان حوادثها المتلاحقة و عدم جدوى تشغيلها من الناحية الاقتصادية، و إن كانت ستظهر في المستقبل القريب طائرات جديدة تطير على الارتفاع نفسه أو حتى على ارتفاعات أعلى و بكثير (الطائرات الفضائية).
أما الطائرات الحربية فتضغط ابتداءً من ارتفاع 7600 مترٍ أو لا تضغط، و ذلك لإتاحة فرصة أكبر للطيار للعمل بوزن أخف (بدون وزن الضغط). و لذلك يلبس الطيار قناعاً وجهياً محكم السد و يتنفس مزيجاً من الهواء و الأوكسجين النقي، ذلك المزيج الذي يُعدّل بصورة آلية وفق الارتفاع بما يضمن أن يتلقى الطيار كفايته من الأوكسجين، و لكن إذا زاد ذلك عن الحد فإنه يتسبب بما يسمى «التسمم بالأوكسجين». أما فوق 11500 مترٍ فيتعين على الطيار أن يتزود بالأوكسجين النقي المضغوط، و لكن ذلك يمكن أن يجعل التنفس عملاً شاقاً بسبب استرخاء عضلات الصدر عند امتلاء الرئتين بالهواء المضغوط. وقد تنفجر الرئتان إذا ازداد ضغط الغاز زيادة شديدة، لأن الهواء المضغوط سيملأ الرئتين و هما في حالة الزفير. أما إذا ما توفر ضغط خارجي ما قابل لدعم جدار الصدر، عندها يمكن للرئتين أن تتحملا ضغوطاً أعلى. و لهذا يلبس طيارو القوات الجوية بذلة ضغط مضاد في الارتفاعات العالية، و هي بذلة محكمة السد تنفخ حول الصدر و البطن بهواء ذي ضغط جوي منخفض و يستخدمها الطيارون العسكريون فوق 12000 مترٍ تجنباً لخطر زوال الضغط الانفجاري إذا ما تشقق غطاء الطائرة (بشظية مثلاً). كما يرتدي القافزون المظليون و المنطاديون – الذين يصعدون إلى ارتفاعات عالية أو يقفزون من ارتفاعات عالية - مثل تلك البذلة.
و يتدرب الطيارون الحربيون على التنفس من خلال إزالة الضغط ليمنعوا تمدد الهواء اللاحق من أن يمزّق رئاتهم، و ذلك في حالة اضطرار الطيار المقاتل لقذف نفسه خارج غطاء القُمرة و هو على ارتفاع عالٍ. أما في المهمات القتالية الليلية، فإن الطيار يتزود بالأوكسجين منذ لحظة مغادرته الأرض، لأن نقص الأوكسجين يؤثر على حاسة البصر، و يتجلى تأثيره على العين عند الرؤية الليلية بشكل خاص. و القاعدة العامة التي يعرفها كل الطيارين تقول: «من بين جميع الحواس فإن النظر أهمها في الطيران .»
و يشعر الطيار المقاتل الذي يتسلق بسرعة 1000 قدم/الدقيقة (بدون أوكسجين إضافي) بما يسمى «جوع الهواء »، و هو الرغبة في أخذ شهيق عميق على فترات مع إحساس بالقلق و الخوف و الصداع. ذلك أن خطورة الأمر لا يمكن التنبؤ بها، ما يوجب ضرورة توخي الانتباه الدائم. فهناك بعض الطيارين المتمرسين الذين يطيرون على ارتفاعات أكثر من الحد المسموح دون وقود إضافي، و هم بالضبط كسائق الشاحنة الذي يقنع نفسه بأن «كأس إضافي من الخمر لن يؤذي .» وقد أجرى أحد الباحثين الأمريكيين دراسة عن التأثيرات الناتجة عن نقص الأوكسجين عند الطيران على ارتفاعٍ عالٍ، فتوصّل إلى النتائج التالية:
- من ارتفاع 8000 إلى 10000 قدم، يشعر الطيار بتعبٍ و كسل.
- من ارتفاع 10000 إلى 15000 قدم لمدة ساعتين أو أقل، يشعر الطيار بتعب و آلام في الرأس و محاكمة عقلية ضعيفة.
- من ارتفاع 15000 إلى 18000 قدم لمدة ساعة و نصف أو أقل، يحس الطيار بالسعادة و زيادة الثقة بالنفس و قلة الانتباه و تحكم غير ثابت بالعضلات و تشويش الرؤية و ضعف الذاكرة و احتمال فقدان الوعي.
- فوق ارتفاع 18000 قدم، تحدث الظواهر السابقة كلها للطيار بشكل أسرع، بالإضافة إلى فقدانه التحكم بالعضلات و فقدانه المحاكمة العقلية و الذاكرة و فقدانه التعامل مع الأسباب و الأشياء و فقدانه الإحساس بالزمن، و يقوم بحركات مكررة غير ذات معنى، و من المحتمل أن يقوم بالضحك أو البكاء أو بظواهر عاطفية أخرى.
- على ارتفاع 26000 قدم، يفقد الطيار الوعي عادة بعد 4 إلى 6دقائق.
- على ارتفاع 30000 قدم، يفقد الوعي خلال دقيقة إلى دقيقتين.
- على ارتفاع 38000 قدم، يفقد الوعي خلال 30 ثانية أو أقل.
- على ارتفاع 50000 قدم، يفقد الوعي خلال 10 إلى 12 ثانية.
و يُنصح الطيارون للتخفيف من حدة تأثير نقص الأوكسجين المحافظة على نسبة السكر في الدم، و تناول وجبة الفطور إذا كان سيطير لوقت طويل، و تناول الأغذية التي تحتوي على الفيتامينات وخاصة فيتامين "A" ، والنوم الكافي، وتحاشي التدخين و الإجهاد الجنسي و شرب الكحول قدر الإمكان.

ما هي الارتفاعات التي تشكل خطراً على حياة الإنسان ؟
يحدد الارتفاع العالي، و على نحو اعتباطي، بأنه الارتفاع الأعلى من 3000 مترٍ فوق سطح البحر، إلا أن قرابة 15 مليوناً يعيشون فوق هذا الارتفاع في مناطق جبلية حول العالم، كما أن كثيراً من الناس الآخرين يزورون ارتفاعات تربو على 3000 مترٍ كل سنة بغرض التزلج أو السياحة و التجوال أو التسلق. على أن الحد الذي يمكن فيه للإنسان أن يعيش فترة مديدة من الزمن ربما تكون 5800 مترٍ عن سطح البحر، لأن الحياة في ارتفاعات كهذه مشحونة بالمصاعب، مثل البرد و الجفاف و الإشعاع الشمسي المكثف، إلا أن أهم سبب هو انخفاض نسبة الأوكسجين في الهواء، و هو ما أطلق عليه القدماء «دوار الجبال » دون أن يعرفوا سببه الرئيسِ المتمثل بنقص الأوكسجين.
إن النقص في هواء الارتفاعات يعني أنه يحوي أوكسجيناً أقل، و ذلك يثير مشكلة كبيرة للإنسان الذي يحتاج باستمرار إلى الأوكسجين ليزود به خلايا جسمه التي يحترق الأوكسجين داخلها جنباً إلى جنب مع الأغذية و كمائيات الفحم لإنتاج الطاقة. و الخلايا التي تبذل جهداً أكبر، كالخلايا العضلية مثلاً، تحتاج إلى أوكسجين أكثر نسبياً.
لقد وصف القدماء دوار الجبال بعدة أوصاف. فالصينيون القدماء وصفوا الطريق بين الصين و ما يمكن أن يكون أفغانستان الحالية بجبل الصداع الكبير، و جبل الصداع الصغير، و الأرض الحمراء و سفح الحمى. و الإغريق الذين وجدوا أن أنفاسهم قد انقطعت على قمة جبل الأوليمب )قرابة 2900 مترٍ(، زعموا أن القمة هي حكر الآلهة. و سكان الإنكا في أمريكا الجنوبية كانوا يحتفظون بجيشين، أحدهما يُحتفظ به بشكل دائم في الارتفاعات العالية لضمان تأقلمه، و الثاني يستخدم للقتال في المناطق الساحلية. و كان الإنكا يتراجعون إلى الجبال صاعدين إلى الأعلى و الأعلى، حيث كان الغزاة الإسبان يجدون صعوبة في الذهاب بأثرهم. و على الرغم من أن الإسبان أقاموا مدينة «بوتوسي » ( 4000 مترٍ)، إلا أنه كان يتعين على النساء و المواشي العودة إلى ساحل البحر للإنجاب و تربية النسل في السنة الأولى. و لم تُحل تلك المعضلة إلا بعد التزاوج مع السكان الأصليين.
و هكذا قدّر الإنكا أن دوار الجبال يكون أقل حدة لدى الناس الذين يتعودون الارتفاعات بصورة تدريجية. أما النتائج الفظيعة و المميتة فتنجم غالباً عن الصعود السريع جداً إلى الارتفاعات العالية و التي واجهها لأول مرة المنطاديون الأوائل.
و على كل حال، فإن الارتفاع فوق 4800 -6000 متر يجعل من المستحيل على الإنسان تحقيق مزيد من التكيف. أما الصعود فوق 7900 متر (منطقة الموت) فيسبب عطباً جسدياً سريعاً و ينبغي أن يقتصر على بضع ساعات، و لذلك تقام مخيمات حملات صعود إيفرست على ارتفاعات أدنى من ذلك الارتفاع، ثم يتم الصعود في اندفاعة نهائية تتم في أقصر فترة ممكنة.
تحلق الطائرات الصغيرة على ارتفاعات منخفضة نسبياً، و هي غير مجهزة لضغط مقصورة الركاب لأنها غير مصممة للطيران على ارتفاعات عالية.
وقد أصيب بعض المنطاديين الذين صعدوا إلى ارتفاعات شاهقة ( 8000 - 11000 متر) بالثقل في جميع أعضاء جسمه بشكل متزايد مع زيادة الارتفاع إلى أن أصيبوا بالشلل و العمى المؤقت ثم فقدوا وعيهم، أما المحظوظون منهم الذين لم يصابوا بالعجز التام فقد استخدموا أسنانهم لسحب الحبل الذي يحرر صمام تفريغ الهيدروجين و إنزال المنطاد، بينما فارق بعضهم الحياة.

ماذا يشعر الإنسان عند الصعود السريع إلى ارتفاعات عالية ؟
ذكر أحد المنطاديين الأوائل أنه شعر بفرح داخلي عارم و كأنه ممتلئ بفيض مشع من النور، ويصبح غير مبالٍ و لا يفكر بالخطر. أي أن الانخفاض التدريجي في نسبة الأوكسجين – بشكل عام – يولد مشاعر بالنشوة و يؤدي إلى فقدان التركيز و إضعاف القدرة على التحكم، لينجم عنه في النهاية انخفاض في القدرة العضلية، فقدان الوعي، الغيبوبة و من ثمَّ الوفاة. ففي الحرب العالمية الأولى، عندما لم يكن قد عُرفت أهمية الأوكسجين بعد و تأثير نقصه على القدرات العقلية للطيارين، التقى طياران عدوَّان في الجو و تبادلا التحية بمرح بدلاً من الاقتتال.

السحر القاتل لقمة إيفرست
تشكل قمة إيفرست إغراءً للكثير من المغامرين في العالم الذين يقبلون المخاطرة و التحدي لبلوغ أعلى قمة في العالم. وقد لاقى الكثير منهم حتفهم بسبب الإجهاد الناجم عن نقص الأوكسجين. و مع ذلك فقد وصل أول إنسانين إلى قمة إيفرست عام 1953 بعد عدة أسابيع من المشقة، و إقامة مخيمات إجبارية للتكيف و التأقلم و الراحة، و بعد تزودهم بجهاز ضخ الأوكسجين. بعدها ظهر اعتقاد بأن قهر إيفرست لا يمكن أن يتم بدون أوكسجين إضافي، إلى أن أثبتت قوة إرادة و تصميم المتسلقين عدم صحة هذا الاعتقاد، عندما وصل أول متسلقَين إلى القمة بدون أوكسجين عام 1978 .
و هكذا لا بد من التمييز بين آثار الصعود المفاجئ إلى الارتفاعات، كما يمكن أن يحدث في رحلة بالمنطاد إلى ارتفاع شاهق بدون أوكسجين إضافي (أو حين يُفقد ضغط حجرة الطائرة فجأةً)، و بين آثار الصعود التدريجي (مثل التسلق البطيء إلى قمة جبل) حيث يأخذ المرء وقته اللازم للتأقلم. كما توجد آثار للإقامة الدائمة في الارتفاعات العالية (مدى الحياة).
على كل حال، باتت الرحلة إلى قمة إيفرست عملاً سياحياً مألوفاً يقوم به آلاف الأشخاص غير المدربين سنوياً عندما يصعدون إلى «مخيم القاعدة ». كما أنه، و إن كان سلوك طريق الإنكا و صعود جبال الأنديز ( 4500 متر) يمكن أن يتم بالقطار أو الطائرة، إلا أن دوار الجبال لا يزال مرضاً شائعاً. فالمسافرون جواً إلى عاصمة بوليفيا «لاباز » (3500)متر يُنصحون بألا يجهدوا أنفسهم كثيراً لدى وصولهم، و يموت بعضٌ منهم بنوبات قلبية أو جلطات دموية ناتجة عن الارتفاعات العالية.

كيف تتأثر الرئة بالارتفاعات ؟
تتكون الرئة من سلسلة أنابيب متفرعة تصبح أرق و أدق مع كل انقسام، و تنتهي إلى أكياس هوائية صغيرة تدعى «حويصلات ». و تتواجد في كل رئة حوالي 150 مليون حويصلة، تبلغ مساحتها السطحية نحو 70 متراً مربعاً (مساحة ملعب تنس تقريباً)، و جدرانها رقيقة جداً، و تحيط بها شبكة أوعية دموية أدق تدعى «شعريات ». و عند تدفق الدم يتم تبادل الغاز من الهواء الموجود في الشعريات و المساحة السطحية للحويصلات.
و التهوية هي حجم الهواء الذي يتم تنفسه شهيقاً (أو زفيراً) في كل دقيقة. حيث يستهلك الإنسان العادي نصف ليتر من الهواء في كل نفس، و يأخذ اثني عشر نفساً في كل دقيقة (ستة ليترات في الدقيقة).
و في المرتفعات يزداد تنفس الإنسان نظراً لانخفاض الضغط الجزئي للأوكسجين في الهواء، حيث تقيس المستقبلات الكيماوية (الجسيمات السباتية) المتوضعة في الشرايين السباتية التي تحس بانخفاض نسبة الأوكسجين في الدم فترسل إشارة إلى مركز التنفس في الدماغ بزيادة التنفس. و ينقل الدم ثاني أوكسيد الفحم من موقعه حيث تصنعه النسج (بعد استهلاكها الأوكسجين) إلى الرئتين، و من هناك يتم زفره إلى الجو. و عندما ترتفع نسبة ثاني أوكسيد الفحم في الدم، فإن ذلك يحرّض الجسم على أن يأخذ نفسَاً. و لكن في قمة إيفرست يتنفس الإنسان بشكل أسرع، و بالتالي فإن قدراً أكبر من المعتاد من ثاني أوكسيد الفحم سيُطرد خارج الجسم، و هو ما يخفّض الضغط الجزئي لثاني أوكسيد الفحم في الرئتين و يوفر فراغاً أكبر للأوكسجين. و يصل ضغط ثاني أوكسيد الفحم في القمة إلى 10 وحدات فقط، بدلاً من 40 على مستوى سطح البحر.

تعايش الطيور مع الارتفاعات العالية
لماذا تستطيع طيور الإوز ذات رأس القضيب الطيران من مستوى سطح البحر إلى ارتفاعات تصل إلى 9000 مترٍ في أقل من يوم مع تحملها لنسب الأوكسجين المنخفضة؟ و لماذا يظل عصفور الدوري متنبهاً و نشطاً عندما يتعرض لضغط ارتفاعات تصل إلى 6000 مترٍ، في الوقت الذي يمكن أن يصاب الإنسان في ارتفاعات كهذه بالغيبوبة؟ إن رئة الطير قادرة على أن تستخلص أوكسجيناً أكثر من الهواء المستنشق و تطرد مع زفيرها ثاني أوكسيد فحم أكثر أيضاً. كما أن رئتي الطائر، و على الرغم من صغرهما، تتواصلان مع فضاءات الهواء الواسعة (جيوب تخزين الهواء) التي تمتد بين الأعضاء الداخلية و في عظام الجمجمة و الهيكل العظمي. ناهيك عن أن للطيور قلوباً كبيرةً – بالنسبة لأحجامها – تضخ قدراً كبيراً من الدم في كل نبضة.

وكيف تأقلم سكان المناطق العالية مع وضعهم ؟
إن أدنى ضغط جزئي للأوكسجين يمكن للإنسان أن يظل حياً معه - أي أعلى نقطة يمكن للبشر أن يعيشوا فيها أحياء دون مساعدة اصطناعية - هو 36 توراً (وحدة قياس الضغط الجزئي للأوكسجين)، و هو الضغط الذي يبلغ في رئتي متسلق جبال حسن التأقلم يقف على قمة إيفرست. و سكان المدن العالية، مثل لاباز ( 3500 مترٍ)، تكون شفاههم و أظفار أصابعهم زرقاء وأصابعهم متخشبة بسبب زيادة الكريات الحمراء في أجسامهم، و بالتالي ترسُّب تلك الكريات في الشعيرات الدموية.
كما أن أجسامهم تكيفت مع الارتفاعات العالية، فصدورهم كبيرة و ذوات أشكال برميلية و رئات أكبر تتناسب مع صدورهم، و حجم أجسادهم أصغر من مثيلاتها عند سكان المناطق الواطئة، بحيث أن معدل حجم رئاتهم إلى حجم أجسامهم يكون زائداً. كما أن قلوبهم أكبر مما يتيح إمكانية ضخ الدم إلى الجسم بكفاءة أكبر، و رئاتهم ذوات شعيرات دموية أكثر لتسهيل تلقي الأوكسجين وتسليمه. مع الإشارة إلى أن سكان المنخفضات الذين يولدون و يترعرعون في المرتفعات العالية تظهر لديهم رئات أكبر لكن بدون ذلك الصدر البرميلي. أما سكان الأراضي الواطئة الذين ينتقلون إلى المرتفعات العالية عندما يبلغون سن الرشد، فلا يصلون إلى مستوى التأقلم الذي نجده لدى الناس الذين عاشوا هناك طوال حياتهم، حتى و إن أقاموا هناك لسنين عديدة.
بالإضافة إلى ذلك، يعاني صاعدو الجبال من مشكلات أخرى كالبرد و التجفف و حرقة الشمس: فالهواء الأرق و الأقل كثافة يجعل حجب الأشعة أقل، بالإضافة إلى الأشعة المنعكسة من الثلوج و الجليد، ما يؤدي إلى حرقة شمس حادة.
كما تتناقص الرطوبة كلما ارتفعنا، بسبب انخفاض درجة الحرارة و انخفاض الضغط الجوي أي قلة بخار الماء في الهواء، و ذلك بسبب التجفف الذي يزداد سوءاً بازدياد سرعة التنفس، و يصبح تعويض الماء الذي يتبخر من الرئتين أثناء التنفس ضرورياً، وذلك مشكلة أخرى تحتاج لحمل كميات من الماء للشرب (أو كميات من الوقود لإذابة الثلج و شربه). أما بالنسبة للبرد فقد يتسبب في بتر أطراف أصابع أيدي أو أرجل المتسلقين، وهو ما يسمى «قضمة الصقيع ». فمن المعروف أن درجة الحرارة تهبط درجة مئوية واحدة تقريباً كلما صعدنا 100 مترٍ، ذلك أن التأثير العازل للجو يكون أقل بسبب رقة الهواء، وبالتالي فإن قدراً كبيراً من الحرارة ينفذ إلى الفضاء بوساطة الأشعة. أما نقصان درجة الحرارة فيتضاعف بفعل الرياح العالية التي تؤدي إلى عامل «برد الريح.»

المراجع :
- كتاب «العيش على حافَّة الخطر » / فرنسيس آشكروفت – مكتبة العبيكان – الرياض 2004 .
- كتاب «موسوعة عالم الطيران – الجزء الأول » / محمد سمير الببيلي – دار الشرق – دمشق .2005
- كتاب «موسوعة عالم الطيران – الجزء الثاني » / محمد سمير الببيلي – دار الشرق – دمشق .2005
- مقالات متنوِّعة على شبكة الإنترنت.

مجلة الأدب العلمي العدد الخامس عشر  محطات


0 comments: