Posted by Scientific Literature magazine مجلة الأدب العلمي | 0 comments

شمس التبريزي في قواعد العشق الأربعون صورة الإنسان الكامل ....دوائر الإبداع العدد الخامس


جينا سلطان

إن أهم ما يلفت النظر في رواية "قواعد العشق الأربعون" للكاتبة التركية إليف شافاك ، الإشارة لمستويات القراءة الأربعة للقرآن الكريم ، التي استفاض شمس التبريزي في الحديث عنها . وهي تبتدئ بقراءة سطحية، تندرج نحو الباطن ، حتى عمقه ، ثم قراره ، حيث تسقط حجة الكلام . وتنطبق هذه المقايسة على مستويات الشخصية الإنسانية ، فكل فرد هو قرآن متنقل ، ونوعية القراءة تحددها درجة الامتلاء بالمعنى .  وتتوافق هذه المستويات الأربعة مع عناصر الطبيعة: الماء، والنار، والهواء، والتراب. ويصل العشق منتهاه، حين تُشغف النار بالماء، الذي هو مرآة التجليات السبعة، التي تضيء دروب من شكوا وخافوا، فخالفوا. يشير التبريزي للزمن المتدفق داخل الإنسان بمسار لولبي، يخترق أطوار النفس السبعة، مذكراً بأن الوصول إلى أعلى المراتب لا يجنبنا العودة إلى نقطة البداية، عند اختراق الشك لأساسات اليقين المجبول من مجالدة الحيوات لأثقالها. من هنا، ندرك ماهية الحنين كنداء موشى بالحزن، يتوغل في عمق الروح، حنين يجد مسراه في توق الانصهار مع القرين المكمل، لتحقيق ثالوث الروح النفس الجسد. حين نضج وعاء التبريزي الواسع واختمر عشقه، ضجت روحه تناشد قرينها حنيناً، فمنح الرومي سر وجوده، لكن جرده من أمان اليقين، وتركه مفرغاً من أية دفاعات تجاه عصف الشوق. ومع التقاء النقاء الصرف للرومي بالاكتمال الجوهري للتبريزي، الإنسان الكامل المجرد من خاصية التعلق ، حصل الاخصاب الروحي، وانعرجت الاشواق عبر القلبين/المرآتين نحو سدرة المنتهى. وبن فاعل ومنفعل فاضت روح واتقدت أخرى، وأُغلقت دائرة الفعل ورد الفعل ضمن مسارات التوهج العرفاني، لتنير للسالكين دروباً أغلقها الجهل.

الفراغ الروحي ومقام الدهشة
بالحب، تترمم جراح التوحش والتعطش للمادة، وترتق شروخ الدمار الأخلاقي إبان الصراعات المستعرة بشهوة السلطة والمال. وبه يُملي التبريزي قواعد العشق الأربعين على صفيه الرومي، خلال خلوة الأربعين يوماً، لتسري عبر عناصر التجسد الثقلي الأربعة. ويغدو فراغ التضاد المثنوي للصورة الكاملة العنصر الخامس، الذي يملأ القطاع الدائري المتاخم للمربع المشكل من العناصر. وفيه يقوم وهم المكان الأمثل للتأمل المتجرد من قيد الزمن المرافق للتعلق المادي، فيتحقق الحب بوصفه نفي الزمان والمكان. وبالعناصر الخمسة تكتمل الدائرة التي تتمحور حول النقطة، مركز الكون وذروة الاتقاد الروحي.

كيف تتبدى العناصر الطبيعية الأربعة برمزيتها الصوفية في الرواية ؟
العنصر الأول التراب :
وصف الرومي الإنسان بقبضة ترابٍ كثيرة الجلبة والأوهام، منحت روح الملاك وأطلقت في متاهات الصور المتراكمة لتسعَ نحو اكتمالها. وتشكل الصلابة المستمدة من الأرض التحدي الأكبر أمام الإنسان، فهي تقيد بذرة اليقين، وتمنعها من التفتح باتجاه العشق. ثم يجلب التمترس في سكون الثبات الخوف، الذي يتنفس في العنف والقسوة. يعزو التبريزي العنف إلى نقص في الطاقة الروحية، يتم تعويضه بطاقة جسدية عدوانية، تتخفى بن طيات مفاهيم العدالة الإنسانية النسبية. والحقيقة لا تناسب غالبية الناس، فيواجهون الحب بالكراهية، ويضيقون على أقرانهم بالتشدد في تطبيق الشريعة، التي يصفها شمس بشمعة، توفر لنا نوراً لا يقدر بثمن. لكنها وسيلة لا غاية، تساعدنا على الانتقال من مكان إلى آخر في الظلام، مما ينسف تهمة التكفير من أساسها. تُظهر تجربة التبريزي المبكرة في علاقته بوالده، شكل الخوف الملتبس بالجهل؛ فالأب كان أول من أساء تقدير رؤى ابنه، وعجز عن فهم انتمائه إلى محيط العرفان الواسع. مما دفعه لمغادرة البيت والطواف، بحثاً عن الله في كل مكان، وحياة جديرة بأن تُعاش، ومعلومات جديرة بالمعرفة. يكتمل الحب عبر مجالدة النفس المتمردة بالألم والمشقة، كي تتجدد وتصبح أكثر قدرة على معاينة ألق الله، أما الطبقات القديمة منها والمتراكمة فوق القلب، فيصقلها بقسوة ليعيدها إلى منبتها وغايتها. لذلك، تغدو معرفة النفس طريقاً لمعرفة الله، أي أن الرحلة الحقيقية لكل نفس ممتحنة تدور داخلها حيثما كانت وجهتها الخارجية، فتسقط السلبية الجبرية في احتمال المصاعب، ويقرن الصبر ببعد النظر والوثوق بالنتيجة. وهذا لا ينفي حاجة كل عاشق إلى مرآة تجلي قلبه وتريه صورة الله فيه، فشمس التبريزي تعتق طوال أربعين عاماً في طوافه الصوفي حول نفسه ومداراتها المتصلة بحيوات الآخرين، وحين تأجج عرفانه واتسع وعاء قلبه، احتاج بشدة إلى رفيق روحي تعكس مرآة قلبه فيض أشواقه. وإحدى قواعده تلخص الفكرة بالكلمات: «لا تستطيع أن ترى نفسك حقاً، الا في قلب شخص آخر، وبوجود الله في داخلك . »
يتطلب فتح قلب شخص لكي يستقبل النور الروحي الكثير من المجازفة والتضحية، فما من أحد يسعى وراء الحب ويستغرق فيه إلا وينضج أثناء رحلته. لذلك أزال شمس شعره كله فأصبح وجهه مجرداً من أي اسم أو عمر أو جنس، ولم يعد له ماض ولا مستقبل، وانغلق إلى الأبد في لحظة تجدد الفيض في مرآة رفيق دربه الرومي. وفي تصرفه إشارة إلى ضرورة نفي التعلق بتفاصيل الحياة المادية، وارتباطاتها بالإسراف في تصريف شهوة المال والقوة والمتعة الجسدية. ومجازفة شمس برأسه لأجل الرومي لها ما يبررها، فكأس المريد كانت مترعة حتى الحافة، وبحاجة لفتح باب الروح، كي تتدفق مياه الحب الى الداخل والخارج. فتوجب التقاء النهرين ليصبا في محيط العشق الإلهي وليكونا مجرى ماء واحداً. وهذا التدفق معاً ولد السخط والمعارضة من الجاهلين المتأخرين.
العنصر الثاني الماء :
يرمز الماء في الإرث الصوفي إلى فيض المعرفة الكلي، ويكنى عنه بمدد البحر وسعته اللامتناهية؛ التي تعبر متاهات الأشكال وحيرة التموجات الصاخبة المرصودة للنسيان، فتمنع حبس التأجج العرفاني في قفص اليقين، وتدفعه نحو التوسع دائرياً في مدار القلب، وصولاً إلى حد الانفجار الكلي به وعبره ومن خلاله، والذي يُعرف بمقامات العشق المحجوبة بأطوار النفس السبعة. تتوزع الصور الإنسانية إلى أوعية تفيض بالماء حسب اتساعها، فتسيل أودية القلوب بقدرها، لتمنح صيرورة الحياة المندفعة من المنبع إلى المصب مرونتها الانسيابية المدهشة. وإدراك هذه الخاصية يخفف كثيراً من أعباء الصدمات المعترضة لكل نفس ممتحنة تسلك درب العرفان. وفي مثال الحكيم مع شمس التبريزي أمام مدخل المدينة، مؤشر واضح على أهمية تجنب مزالق الثنائيات المتناقضة الملازمة لتكوين الصورة ومغزى وجودها. فشمس يرفض الانسياق إلى فخ التقسيم والاختيار بن مقاومة الكراهية، التي يبديها العامة للغرباء والاستسلام لمحبتهم العفوية، تاركاً للحياة الفرصة الكاملة كي تعيش داخله. وبذلك تتعتق بصيرته خارج مفهومي الخير والشر، وما وراء العدالة وطقوس الثواب والعقاب. وفي موقفه المتجرد من غواية النسبية دعوة إلى القبول الطوعي بدرس القدر بوصفه فرصة للتطوير الذاتي، فالتغيرات ذات الشكل المغاير لتصوراتنا المألوفة، قد لا تجلب لنا أسوأ الخيارات، وما هو شر في الظاهر قد ينجلي عن جانب مشرق يغني المسيرة الفردية نحو العرفان. فنحن لسنا إلا أعمالاً فنية ناقصة تسعى جاهدة للاكتمال.
العنصر الثالث الريح :
تتيح طبيعة الريح المتحركة للنفس تلمس التغير الذي تحدثه في جمود المتاهات الحياتية المسؤولة عن حبس الأرواح ضمن قيود مصطنعة، وفي إسار أفكار متصلبة تعيق تدفقها نحو الغنى والاتساع العرفاني، وتحجز قابليتها للإخصاب النوراني. ومن هنا نفهم أهمية مقارنة التبريزي الجريئة بين عشق البسطامي للحق، الذي اضطرم داخله فاختلط مع صورة النفس الكاملة، وتماهي المصطفى مع الذات الإلهية ومناشدته لها بغفران العجز عن تمام المعرفة. ففي الحالة الأولى هناك إشارة إلى وعاء توقف عن التوسع، واكتفى بغواية العشق المتلبسة بالمكر الإلهي، بينما في تواضع المصطفى نلتمس دعوة خفية إلى مجالدة النفس باستمرار لتوسيع وعائها قبل أن يحين أوان فيضه. أراد التبريزي أن يختبر الرومي في أول لقاء بينهما بسؤال الوعاء، كي يعاين المسافة التي يمكن لتلميذه أن يقطعها في التخلي عن صورة ذاته المكتسبة، التي تمترست حول شخصية خطيب متمكن سبر الكلمات والمعاني حتى ملكها. مما قد يحدد خيارات التطور باتجاه الانفتاح وتقبل مظاهر الاختلاف بوصفها معبراً نحو التوازن في الحب بأبعاد تجلياته. وبالتالي أراد أن يتحقق من مدى استعداده للمضي في محو شخصيته حتى يذوب في الله.
العنصر الرابع النار :
تتفعل النار في المستوى الصوفي ضمن طوري الهدم والبناء المتكاملين، وتتوافق مع المعنى الباطني لتحمل الخسارة المادية والعاطفية طواعية، ابتداء بفقدان الأشياء والممتلكات وصولاً إلى غياب الأشخاص المقربين. وهذا ينطوي في حد ذاته على أسرار الانفتاح على منتهى الحب الذي هو العشق الإلهي، إذ يتخفف المريد من غوائل التعلق، فيقبل الحقيقة بدون تمترس صنمي يحولها إلى تعبد للذات.
كان شمس يحرق في داخله مثل كرة من نار، في تطابق بن اسمه ومعناه الباطني، فأحرق تمترسات الرومي كي يفسح المجال للماء بداخله أن يقبل كافة التجليات حتى في أضعف المخلوقات، فيتحرر من أوهام الشكل، مما يزيل العوائق أمام تدفق الجمال الذي بداخله فينساب بصفاء ليفيض في قبسات العشق الإلهي المُسقط على جوهر المحبوب.

العشق بين النار والماء
تلتهم النار هشاشة الذوات المتضخمة لذوي الآفاق الضيقة الذين في آذانهم وقر، فيعلو صخبهم وعنفهم وتكثر مشاجراتهم، وهؤلاء يصطدم معهم شمس ليعرقل اكتمال ظلمتهم الداخلية قبل فوات الأوان، وبذلك يفسح لهم الفرصة كي يتغلبوا على القلق والخوف، ويمدوا جسورهم نحو الحب والإيمان. أما الذواقون إلى الجمال والتواقون للانصهار في البهاء الصافي الكلي، فتخلصهم النار من مخاوفهم وتضعهم في مواجهة نفوسهم، مما يسرع في خروجهم من مصيدة الأشكال والصور.

رمزية الحلم في الصوفية
يمر الإشراق في القلب بثلاث مراحل متداخلة، من الاسم فالمعنى ثم الذات، وهو ما يعرف بالثالوث المقدس في ديانات الشرق القديمة، المتوارثة عن عقيدة إخصاب الروح. وتتبلور عبر أشكال مختلفة في الظاهر متقاربة في الباطن، تجمعها أحلام حدسية، تميزها رموز غامضة، تشير إلى بوابات التفتح الادراكي العميق. مما يجعلها جزءاً من قدرنا، موجهاً ضمن مسارات النضوج التكاملي للذات الممتحنة. اكتملت حياة الرومي في عمر الثامنة والثلاثين، ضمن مدارات المعرفة والفضيلة والقدرة على مساعدة الآخرين في البحث عن الله. وبات مهيأ للانتقال نحو مستوى روحاني أعلى، تمثلت مؤشراته الأولية في شعور ثقيل بالفراغ الداخلي، يتعاظم يومياً مع تواتر حلم غامض يتكرر طوال أربعين ليلة. لكنه يلج كل مرة من باب مختلف، كي يحقق الاقتراب التوافقي من الحقيقة الكامنة في القلب والمحجوبة بالنفس. أظهر الحلم درويشاً على وجهه حجاب، يحمل شمعداناً فيه خمس شموع متوهجة، تمد الرومي بالضوء ليتمكن من القراءة. ثم مع انجلاء الرؤية تغدو الشموع أصابع اليد اليمنى للدرويش، وكل اصبع منها يشتعل. والرقم خمسة يذكر بدائرة اكتمال المعنى، وتقوده اليد اليمنى التي تعطي الخلاص الروحي في عملية التواصل العرفاني.

الأربعون في الفكر الصوفي
يقال إنه عندما نعشق يجب أن ننتظر أربعين يوماً حتى نتأكد من حقيقة مشاعرنا، لأنها ترمز إلى الصعود من مستوى فكري إلى آخر أعلى مقرون بيقظة روحية. فثمة أربعون درجة تفصل بين الله والإنسان، مقسمة إلى أربع مراحل أساسية من الوعي، في كل منها عشر درجات. وأول صورة منها تجلت في طوفان نوح الذي استمر أربعين يوماً، دمّر خلالها الحياة بفيض الماء، وجرف الشوائب ليمكن البشر من بدء حياة جديدة. ثم خرج المسيح إلى القفر أربعين يوماً وليلة قبل أن يبدأ معركته ضد الجاهلين. وتاه موسى في الصحراء أربعين عاماً قبل أن يسمح ليوشع بتدشين عهد روحي جديد. وكان محمد في الأربعين من عمره عندما نزل عليه الوحي. أما بوذا فتأمل تحت شجرة الزيزفون أربعين يوماً، وشمس التبريزي أحصى العشق الصوفي في أربعين قاعدة.

رمزية الحب في التصوف
يروي الحب بمائه وجهي الحياة الظاهر والباطن، فتزول الشوائب البدنية بالاغتسال، وتتطهر الأجساد بالزهد والصوم. وتتنقى القلوب الحائرة في مقام العشق بالحب، المنزه عن سلبية التعلق وأنانية الاستحواذ، فتنمو الرحمة والشفقة تجاه الغارقين في الجهل والمتشبثين باختلافاتهم الصغيرة. ومع أن ظاهره هو حب النفس وقبولها كمقدمة لمعرفتها دون التوغل في انسياقها نحو التضخم والوقوع في فخ التأله، إلا أن باطنه هو تملي الاتساع اللانهائي لتجليات القدرة الإلهية في أسمائها وصفاتها المتناغمة مع فعل التحريك.
أرادت بغي تسمى بوردة الصحراء أن تستمع لخطبة الرومي، فتخفت في زي رجل ودخلت المسجد، وهناك تعرفها أحد الرعاع، فترك الصلاة، وهاجمها بعنف مسعراً شهوة أقرانه من مدعي الإيمان. وتشر الحادثة إلى غلبة الجهل وغريزة العدوان على مسلك العوام، الذين يتمسكون بأذيال الشعائر، ويتناسون بعدها العرفاني. بينما في حانة المسيحي اليوناني ضمن الحي اليهودي، رفعت مجموعة مختلطة من محبي الخمر من جميع الأديان، أقداحهم وشربوا نخب بعضهم، لأن الله يحبهم ويغفر لهم. وهذا الاعتراف البسيط بقبول اختلاف الآخر يقود مباشرة إلى احترام النظام المقدس، الذي أرساه الله في بهاء الجمال عند كمال النقص. من السهل أن نحب إلهاً يتصف بالكمال، والنقاء والعصمة، لكن الأصعب دوماً هو محبة الأقران بكل نقائصهم وعيوبهم. لذلك كان الحب قوام الحكمة ومصدر مرونتها، لأنه يسهل قبول المشيئة الإلهية والتماهي معها، فالنفس تحجب أنوار الإشراق، وتعجز بتكوينها الكثيف عن معاينة المجهول الواقع خارج مداركها المحكومة بغلبة الهوى.

معنى الخمر في طقوس العشق
تجسد الخمر أوهام التحرر الآني من قيود الزمان والمكان التي يضخمها الخوف من الآخر. لذلك ترمز الخمر في أشعار الصوفين إلى الجرأة والشجاعة في النظر إلى الواقع لا بوصفه جحيماً، بل مساراً تدريبياً على الارتقاء الروحاني المبني على التذكر. وإدراك هذه الحقيقة يتيح تجنب أفخاخ الماضي وتسول المستقبل بالرجاء، فلا يضيع الوقت بالبحث عن التيار، بل يصبح المريد هو التيار، إذ يبحث عن الله في ذاته. أما التناوب بين الإيمان والإلحاد فيغدو الطريقة الوحيدة التي تدفعه للمضي الى الأمام، ليزداد مع كل خطوة جديدة قرباً من الحقيقة .
يُنبِت شمس المتقد للرومي المتحير وردة في الثلج، بعد أن يسقيها بالخمر، فيكسر قواعد التحريم التوراتية، كي يثبت له أن تموضع المادة مكانياً، وهم تخلقه الحاجة إلى الامتلاء. فالخمر كان خلاصة النجوى في ليل الجهل، سقاها المعلم بمحبة صافية لتلميذه، ليختزل قصة العرفان حن يزهر في تربة النفس المهيأة. أي أن صفة المكان تحددها يقظة القلب ونقاؤه، وهو معنى الطهارة في التصوف. وإذا دخل عاشق حقيقي لله إلى حانة، فإنها تصبح غرفة صلاته، بينما يجد فيها الجاهل العابث خمارته.

الأطوار السبعة للنفس
تحتاج رؤية الحقيقة المحتجبة في مقامات النفس السبعة إلى بصيرة متقدة تلتقط المكر الإلهي حيثما تصادفه، وتنفذ عبره إلى ذخيرة العرفان المتناثرة بن طيات الرموز والإشارات. لذلك ناشد التبريزي، قبل أن يدخل بصحبة الرومي خلوة الأربعين، كي يناقشا قواعد العشق، باطن الله  وجه الله المخفي ، أن ينير له عقله ويمكنه من رؤية الحقيقة المحتجبة عبر تلك الأطوار السبعة، التي كل حجاب منها هو صورة متكاملة، متناسبة مع حجم الجهل والشرك في الروح المغتربة عن عالمها النوراني.

مفهوم المرآة
لعب شمس دور المعلم الروحي لكل من صادفه في طوافه، لكن مع الرومي تكاملت أطواره، فغدا بحر رحمته ونعمته، ثم حقيقته وإيمانه، وظهر له كملك ملوك الروح. وشابهت صحبته التلاوة الرابعة للقرآن؛ رحلة لا يمكن الإحساس بها إلا من الداخل، ولا يمكن إدراكها من الخارج مطلقاً. حطم شمس سمعة الرومي النقية حين طلب منه الذهاب إلى الحانة، ليختلط بأهل القاع الاجتماعي، الذين لا صوت لهم ولا عزاء، كي يخرجه من القوقعة الصلبة التي حجز نفسه داخلها، ويدخله من الباب الضيق، باب محبة مخلوقات الله جميعاً. ثم أتلف كتبه الأثيرة لديه الواحد تلو الاخر ليختبر ثقته ويقينه، فطريق القلب يخترق الارتباطات القديمة المعيقة لانعتاق الروح. ففي كل لحظة ومع كل نَفس، يجب على المرء أن يتجدد، أي يموت قبل أن يأتيه الموت.

العدم/الحضور في الغياب
جرف العشق كل ممارسات الرومي وعاداته، وملأ كوبه بالشعر، الذي هو وعي العدم بالنسبة إليه، فانتظمت صيرورة اكتماله من خلال قوة الكلمات الخفية، التي تعكس المكنون المنثور في احتمالات الصور. ورغم أن إيمانه بالكلمات لم يكن سوى وسيلة لنقل الحروف، التي وضعت في فمه، فالكلمات كانت تتدفق في قصائد تلهب مخيلة التواقين للعشق، وتهبهم الأمل، وما إن تنتهي حتى يعادوه الهدوء والصمت. ومع مرور السنين ازداد اكتمالاً، وتعين عليه مواصلة السير، إذ لا توجد نقطة معينة يمكن بلوغها، لدوران الكون الثابت حول سر الكاف والنون. كانت صداقة شمس مع الرومي مباركة، إذ تذوقا الامتلاء والهناء المطلقين، وشهدا جمالاً مميزاً، فتغير شمس وتحول من كائن الى عدم، وانتقل من الحياة تحت ظلال الصور إلى موتها بعد انتفاء الحاجة إليها. وتعلم ماذا يعني أن يرى المرء، مثل مصادفة لا نهائية، من خلال مرآتين تعكسان ما لا نهاية.

مجلة دوائر الإبداع العدد الخامس  من التراث

0 comments: